سورة الأعراف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي خلقنا.
وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، {لِجَهَنَّمَ} أي: للتعذيب بها {كَثِيراً} أي خلقاً كثيراً {مّنَ الجن والإنس} أي من طائفتي الجنّ والإنس، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْ لِه، وبعمل أهلها يعملون.
وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} كما يفقه غيرهم بعقولهم. وجملة {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل رفع على أنها صفة لقلوب. وجملة {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل نصب صفة ل {كثيراً} جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم، غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار، وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة. وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها، فينتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضرّ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} قال: خلقنا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم».
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} قال: لقد خلقنا لجهنم {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} قال: لا يفقهون شيئاً من أمور الآخرة {وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا} الهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ثم أخبر أنهم الغافلون.


هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بماله من الأسماء، على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن، أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة، فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة، وقد ثبت في الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» وسيأتي، ويأتى أيضاً بيان عددها، آخر البحث إن شاء الله.
قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ} الإلحاد: الميل وترك القصد. يقال لحد الرجل في الدين وألحد: إذا مال، ومنه اللحد في القبر، لأنه في ناحية، وقرئ: {يلحدون} وهما لغتان، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه، إما بالتغيير كما فعله المشركون، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله، والعزّى من العزيز، ومناة من المنان؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض. ومعنى {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ} أتركوهم ولا تحاجوهم، ولا تعرضوا لهم، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11]، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] وهذا أولى لقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة، وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم.
وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين، أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي.
وقد أخرج أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو عوانة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتريحب الوتر» وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم: «من دعا بها استجاب الله دعاءه» وزاد الترمذي في سننه بعد قوله «يحبّ الوتر»: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الوليّ، الحميد، المحصى، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالى، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور».
هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعة وقال: هذا حديث غريب.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة، والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق. ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى، عن موسى ابن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً، فسرد الأسماء المتقدّمة بزيادة ونقصان.
قال ابن كثير في تفسيره والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد، وسفيان بن عيينة، وأبي زيد اللغوي.
قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون، عن فضيل ابن مرزوق، عن أبي سلمة الجهنى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب أحداً قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك وأمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: «بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى.
وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات.
قال ابن حزم: جاءت في إحصائها، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً.
وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه، ولا أدري كيف إسناده.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والطبراني كلاهما في الدعاء، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن أبي هريرة: إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة: أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الربّ، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البارئ- وفي لفظ: القائم- الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، العفوّ، الغفار، الوهاب، الفرد- وفي لفظ: القادر- الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعالي، ذا الجلال والإكرام، المولى، البصير، الحق، المتين، الوارث، المنير، الباعث، القدير- وفي لفظ: المجيب- المحيي، المميت الحميد- وفي لفظ: الجميل- الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، الملك، المقتدر، الأكرم، الرؤوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل.
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال: هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا الله، يا ربّ، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك. وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رؤوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا باسط، يا حيّ، يا قيوم، يا غني، يا حميد، يا غفور، يا حليم، يا إله، يا قريب، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير. وفي آل عمران: يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل. وفي النساء: يا رقيب، يا حسيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا عليّ، يا كبير. وفي الأنعام: يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان. وفي الأعراف: يا محيي، يا مميت. وفي الأنفال: يا نعم المولى، ويا نعم النصير، وفي هود: يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد. وفي الرعد: يا كبير، يا متعالي. وفي إبراهيم: يا منان، يا وارث. وفي الحجر: يا خلاق. وفي مريم: يا فرد. وفي طه: يا غفار. وفي قد أفلح: يا كريم. وفي النور: يا حق، يا مبين. وفي الفرقان: يا هادي. وفي سبأ: يا فتاح. وفي الزمر: يا عالم. وفي غافر: يا قابل التوب، ياذا الطول، يا رفيع. وفي الذاريات: يا رزاق، ياذا القوة، يا متين. وفي الطور: يا برّ. وفي اقتربت: يا مقتدر، يا مليك. وفي الرحمن: ياذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا ربّ المغربين، يا باقي، يا معين.
وفي الحديد: يا أوّل، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن. وفي الحشر: يا ملك، يا قدّوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصوّر. وفي البروج: يا مبدئ، يا معيد. وفي الفجر: يا وتر. وفي الإخلاص: يا أحد، يا صمد. انتهى.
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حرّرها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم، عن ابن عباس، وابن عمر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن».
وأخرج البيهقي، عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال لها: «قومي فتوضيء وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع»، ففعلت؛ فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم وفقها»، فقالت: اللهمّ إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير، الأكبر، الذي من دعاك به أجبته، ومن سألك به أعطيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبتيه أصبتيه» وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ} قال: الإلحاد، أن يدعو اللات والعزّى في أسماء الله.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، قال: الإلحاد التكذيب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في الآية قال: اشتقوا العزّى من العزيز، واشتقوا اللات من الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في الآية قال: الإلحاد المضاهاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ: {يلحدون} من لحد، وقال تفسيرها: يدخلون فيها ما ليس منها.
وأخرج عبد الرزاق بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في الآية قال: يشركون.


قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} خبر مقدّم و{أُمَّةٍ} مبتدأ مؤخر، و{يَهْدُونَ} وما بعده صفة له. ويجوز أن يكون {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} هو المبتدأ كما تقدّم في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} [البقرة: 8]. والمعنى: أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق. وبالحق {يَعْدِلُونَ} بينهم. قيل: هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، كما ورد في الحديث الصحيح.
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج: كفّ الشيء، يقال أدرجته ودرجته، ومنه إدارج الميت في أكفانه. وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج: أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبيّ: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في إثر بعض. والمعنى: سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية، ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك، وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة.
قوله: {وَأُمْلِى لَهُمْ} معطوف على سنستدرجهم، أي أطيل لهم المدّة وأمهلهم، وأؤخر عنهم العقوبة. وجملة {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء، ومؤكدة له. والكيد: المكر، والمتين: الشديد القويّ، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب. قال في الكشاف: سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.
والاستفهام في {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ} للإنكار عليهم، حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به. و{ما} في {مَا بِصَاحِبِهِم} للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر {بصاحبهم} والجنة مصدر، أي وقع منهم التكذيب، ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً. وقيل إنّ {ما} نافية واسمها {مّن جِنَّةٍ} وخبرها بصاحبهم، أي ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهم: {ياأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويكون الكلام قد تمّ عند قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ}. والوقف عليه من الأوقاف الحسنة. وجملة: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاستفهام في {أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والأرض} للإنكار والتقريع والتوبيخ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدّم بيانه.
والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم، خائضون في غوايتهم، لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً.
قوله: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ} أي: لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أومن دقائقها من سائر مخلوقاته.
قوله: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} معطوف على ملكوت. و(أن) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وخبرها {عسى} وما بعدها، أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فيموتون عن قريب. والمعنى: إنهم إذا كانوا يجوّزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به، وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به. {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} الضمير يرجع إلى ما تقدّم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة، أي فبأيّ حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره؛ وقيل الضمير للقرآن. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل للأجل المذكور قبله.
وجملة {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} مقررة لما قبلها، أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله، ومن يضلله فلا هادي له، أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق، وينزعه عن الضلالة ألبتة {وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ} قرئ بالرفع على الاستئناف، وبالجزم عطفاً على محل الجزاء. وقرئ بالنون. ومعنى يعمهون: يتحيرون. وقيل: يترددون، وهو في محل نصب على الحال.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقولإذا قرأها: «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} يقول: سنأخذهم من حيث لا يعلمون.
قال: عذاب بدر.
وأخرج أبو الشيخ، عن يحيى بن المثنى في الآية قال: كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة، تنسيهم الاستغفار.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سفيان في الآية قال: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن ثابت البناني، أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين.
وأخرج أبو الشيخ، في قوله: {وَأُمْلِى لَهُمْ} يقول: أكفّ عنهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} إن مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كيد الله العذاب والنقمة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى أصبح، فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13